أطلق الرئيس التركي رجب الطيب اردوغان تهديدات واسعة طالت أكثر من دولة وجهة بتصريحه الخطير في كلمة متلفزة جاء فيها حرفياً ما يلي:"لن نتراجع أمام قوى الشر، إن كانت منظمة فيتو أو حزب العمال الكردستاني أو اللوبي الأرمني أو اللوبي اليوناني أو بؤر العداء في منطقة الخليج". وأضاف:"ندرك جيدا المآرب الخبيثة وراء المكائد التي تستهدف اقتصادنا".
أردوغان يُدرك تماماً أن قوى دولية تسعى لإسقاطه، والقرار الأميركي-الروسي-الإيراني بمباركة خليجية الأوروبية لوضع حدّ لحقبة حكم الأخوان المسلمين وإسدال الستارة عليه قد اتُخذ.يردّ أردوغان عسكرياً.
المؤشرات الدالّة على هذه الحقيقة واضحة فيما يلي:
أولاً، منظومة الدفاع الجوي الروسية الصنع "اس ٤٠٠" التي عقدت تركيا العزم على تشغيلها في شهر نيسان الماضي لولا انتشار وباء"كوفيد ١٩". منظومة أشعلت التوتر في العلاقات الاميركية-التركية وصلت حدّ تهديد الرئيس الاميركي دونالد ترامب لنظيره التركي بتوقيع عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا وحجب برنامج طائرات "اف ٣٥" عنها. الفريق الأوروبي وافق الإدارة الأميركية على هذا الإجراء معلنا أن لا جدوى من دخول تركيا التجمع الصناعي لطائرات "اف ٣٥". أخّر انتشار الوباء من تنفيذ المقررات الدولية بهذه القضية ولكنه لم يبدّلها.
ثانياً، تقاسم المصالح الأميركية-التركية في شمال سوريا بهدف المهادنة السياسية يؤثر سلباً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي دخلت الحرب في سوريا الى جانب الجيش السوري دفاعا عن وحدة واستقلال سوريا في حلف ايراني-سوري محوري في الاستراتيجيا الدفاعية الايرانية وسياستها الخارجية الإقليمية. لكنّ تركيا اليوم تحتلّ أراض سورية. ماذا يعني ذلك؟ إنه تحول في المشروع التركي من التمدد الغربي باتجاه أوروبا إلى عودة عسكرية جنوبية باتجاه سوريا ومنها إلى العمق العربي.صراع على القيادة الإقليميّة يأخذ بعداً عسكريا مباشرايتطور إلى منحى دموي تصاعدي على الأراضي السورية. يواجه الكرد في هذا التصعيد قدراَ مؤلماً بعدما تبيّن أن أردوغان يمضي قُدماً بتعزيز احتلاله لسوريا، متذرّعاً أنّ من حقه الطبيعي حماية "أمنه القومي" من قوات سوريا الديمقراطية" التي يعتبرها وجها آخر لحزب العمال الكردستاني المصنف من قِبله بالإرهابي. مشروع أردوغان أبعد من الكرد. هو محترف في اختراع الذرائع للمضيّ العسكري وتوزيع الجبهات، ومحترف أيضاً في "صفر" علاقات دولية.
معركة "إدلب" في شمال غرب سوريا قطعت حبل المهادنة مع ايران. قصف مباشر على الجيش السوري و"حزب الله" من الجانب التركي يوقع خسائر بشرية كبيرة. إسرائيل تحابي أردوغان وتسانده جويا في قصف مواقع عسكرية إيرانية و تستهدف "حزب الله".
تعلم ايران ان العلاقات الايرانية-التركية مع نظام رجب الطيب أردوغان لن يسودها الاستقرار الذي تسعى إليه .
ثالثاً، ليبيا. يتباهى أردوغان بإرسال جنوده إليها للدفاع عن مليون شخص ليبي من أصول تركيّة كما يدّعي. خطوة تؤكّد أهمية وضع اليد على سوريا من قبل تركيا كما طمح اردوغان وعمل منذ اندلاع الحرب السورية؛ وتؤكد توجههه نحو محاولة قيادة العالم الإسلامي من بوابة الإسلام السياسي. مغامرة تركيا العسكرية في ليبيا أغضبت مصر ودول عربية وخليجية واوروبية.
مصر لن تدخل في المواجهة العسكرية المباشرة في ليبيا ولكنها تدعم الخصم الرئيسي لحكومة الوفاق خليفة حفتر.الولايات المتحدة كانت قد لمحت أن حفتر يتلقى الدعم العسكري من روسيا. يهم موسكو أن يتواجد لها نفوذ واسع في ليبيا. أردوغان وضع يده على جغرافيا سياسية عبر ليبيا تفتح له السيطرة على امدادات الطاقة باتجاه أفريقيا ما قد يضعه في موضع اقوى في معادلة القوى مع أوروبا لا سيما بعد نزاعاته مع اليونان وقبرص. تمدّد لن تقف أمامه السعودية مكتوفة اليدين .
ماذا عن لبنان في المشروع التركي؟حُكي كثيرا عن الحلم العثماني لدى أردوغان. بعضهم حلّل أن هذا الحلم تبدد مع سقوط المشروع التركي في تقسيم سوريا. الرئيس التركي يرفض توصيف الحكم العثماني. انتفضت تركيا دبلوماسيا عندما ذكر رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون الاحتلال العثماني في الاحتفال بمئوية إعلان لبنان الكبير. بعيداً عن التاريخ، واضح أن تركيا اليوم تتمدد ولبنان هدف. نتوقف عند الآتي :
أ-تسعى تركيا إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين. تفيد بعض المصادر أن الحديث جارٍ بين اطراف لبنانية ورسمية على الآلية الواجب العمل عليها لوضع موضع النفاذ اتفاقية الشراكة لإنشاء منطقة حرّة بين البلدين. نذكّر بأنّ هذه الاتفاقية وقّع عليها وزير الاقتصاد والتجارة السابق السيد محمد الصفدي في العام ٢٠١٠. لا لبس أنّ موقع المنطقة الحرة المشتركة هو في مدينة طرابلس. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ لبنان وقّع سنة ١٩٩١ إتفاقية للتعاون التجاري والاقتصادي والصناعي والتقني والعلمي تضمن زيادة نطاق السلع المتبادلة والإعفاء من بعض الإجراءات الإدارية والمالية والتبادل النقدي بعملات قابلة للتحويل. في ظلّ أزمة الدولار، واختفائهمن لبنان عبر ثقوب سوداء مجهولة، العملة الرقميّة قد تكون عنوان اتفاقيّة جديدة. يتحضّر مصرف لبنان لحقبة إصدارها. تحدٍ نقدي آخر ينتظر البلد.
ب-إنّ الجدوى الاقتصادية من البرامج التنموية التي تطرحها تركيا على لبنان حاضرة بقوّة في الاعلانات الترويجية التي تنشرها جمعيات ناشطة في بعض المناطق اللبنانية، لا سيما حيث التواجد السني فاعل مثل طرابلس وغيرها.الأمل بغد أفضل من قِبل الشباب العاطل عن العمل اليائس حتى من وعود تيار المستقبل، يفسّر إضافة إلى العصب العاطفي في الروابط العائلية اللبنانية-التركية التاريخي، رفع الاعلام التركية ومناصرة أردوغان لدى هذه الفئة من اللبنانيين. يعزز هذه التبعيّة، الحاضنة المطلقة للمجموعات الأهليّة من قبل مرجعيّات سيّاسية. وهنا نشير أن بعض تلك المجموعات المناصرة لتركيا-أردوغان مسلّحة وعُرفت اعلامياً بتسمية"قادة محاور"(المفارقة أن جميع المنضوين فيها يُعرفون بالقادة. هي محاور لا جنود فيها، فالكل قائد بمهمته. لكن فعليا على الارض، لكل مجموعة تسمية ولكل عنصر كنية).
ج-شدّ العصَب الطائفي. بسبب خلفيات الحرب في سوريا لا سيما في البعد العقائدي الإسلامي المتطرّف، وبسبب وجود سلاح "حزب الله" الذي يعتبره البعض تهديدا وجوديا له، تحاول بعض الشخصيات السياسية اللبنانية السيطرة على الشارع السنّي عبر الدعم التركي المالي والمعنوي. لم يعد خافياً أن تركيا تقدم مساعدات عينية في الكثير من المناطق عبر شخصيّات طامحة للعمل بالشأن العام. الواقع أنّ الشارع السني ينقسم عاموديا وأفقيا بين أكثر من فريق ومحور. حتماً أردوغان لن يستطيع لمّ شمله. مؤخرا برزت المنافسة بين الأخوين بهاء وسعد الدين الحريري التي يبدو أنها جدّية. تؤكد بعض المصادر أن دولة قطر لن تبقى في موقع المترقّب لهذا الشرخ السنّي الحاصل في لبنان ولدور تركيا الطازج فيه، وتنتظر مرحلة ما بعد كورونا ليكون لها تحرّكا دبلوماسيا لن يكون مفاجئاً للسعودية باتجاه دعم رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري تحت عباءة دار الفتوى الإسلامية.
في هذه المشهدية، إنّ لموقع لبنان الجغرافي الاستراتيجي أهمية كبرى لدى الجانب التركي لا سيما في خطة أمن الطاقة في البحر الابيض المتوسط والذي وضعها الرئيس التركي انطلاقا من اليونان وقبرص. لا يثنيه عنها الاعتراض الدولي على اعتداءات بلاده في المنطقة الاقتصادية الخاصة لجمهورية قبرص وانتهاكها لقانون البحار. بالأمس كل من مصر واليونان والإمارات وفرنسا وقبرص أصدروا بيانا مشتركا ندّدوا فيه بالاعتداءات التركية المتتالية لأكثر من ستّة مرات في عام واحد لمحاولة التنقيب غير الشرعية في المياه القبرصيّة، كما بالانتهاكات الجوية المستمرة على المجال الجوي اليوناني والسماح بالهجرة غير الشرعية إلى اليونان. نتوقف هنا لنؤكد أن لبنان سواء كان دولة نفطية أم لا، موقعه الجغرافي في الاستراتيجيا الدولية للرئيس التركي هو بحد ذاته هدف. هدف قد يدفع أردوغان إلى خطوة تشعل المنطقة مجددا، وهذه المرة من الجانب اللبناني بعد السوري وأيضا بحجّة محاربته "الإرهاب". التحرّك الدولي سياسيا وحقوقيا واقتصاديا واجب وطني لانقاذ البلد من مشاريع كبيرة تحاك."الحجر السياسي" قاتل في حروب الأعداء المجهولين.